الكرية الحمراء
ولنأخذ في هذا البحث مثلا (الكرية الحمراء) المتناهية في الصغر، العملاقة في العمل وفيها سر من أسرار الحياة الرائعة!!
ليست الكرية الحمراء أكثر من خلية أنتجها نقيُ العظام. وهي الخلية التي تتطوّر على مراحل عدّة في ثلاثة إلى خمسة أيام. وخلالها تكون وقتئذٍ قد تهيّأت لوظيفتها الكبرى في حياة الكائن الحي!!
يبلغ عددُ الكريات الحمراء في جسم الإنسان خمسة ملايين في الملمتر المكعب الواحد من الدم، وبقطر ثابت 7 ميكرون، وبحجم محدد 17 ميكرون مكعب.
أما خضابُ الكرية فهو وسطياً أيضا 16% من الغرام في كل سنتم3 من الدم، وكامل عدد الكريات الحمراء هو 25 مليار كرية، وعمر كل منها 120 يوماً، تتخرّب جميعها في النهاية، بينما ينمو ويكبر مثلها ليقوم بدوره الفاعل في حياة صاحبها!!
يُنتج نقي العظام في الجسد الكريات الحمراء إلا في الجنين. ففيه يختص كبده الصغير بالإنتاج إلى أن يتمكن نقي العظام من القيام بالدور المطلوب. ويكون هذا بدءاً من الولادة!! لكنّ الكبد وإن ارتاح من الإنتاج، إلا أنه يبقى جاهزاً لاستئنافه عند طوارئ يقع الجسد فيها، كالمرض، مثلاً، ففيه تشتدُّ الحاجة إلى الكريات الحمراء، فيقوم الكبد بالعمل السريع إلى جانب استنفار «المصانع الاحتياطية» الأخرى فتهبّ للمساعدة الواجبة. وهكذا يقوم الطحال والعُقد اللمفاوية لنقي العظام في الإنتاج المضاعف، لسد حاجة الجسد إلى الكريات.
من المفيد هنا لفت النظر إلى أن أكثر العظام انتاجاً للكريات الحمراء فقراتُ الظهر يليها أضلاعُ الصدر، ثم عظمُ القص، بينما اضعف العظام في الإنتاج عند الكهل هو عظم الساق، بينما يستمر إنتاج الكريات الحمراء في مراكزه الأساسية دون توقف حتى الموت.
صنع الكرية الحمراء
لصنع الكرية الحمراء بشكل كامل نحتاج إلى مواد أولية كثيرة فهي إلى الشحوم والسكاكر، توجد الخمائر والبروتينات والماء والفيتامينات والأحماض العادية والأحماض الأمينية... وكلها تمتزج ضمن مقادير محددة، لصنع الكرية المعجزة. يمكننا أن ندرك قدرات المصانع الدقيقة تلك والتي تعمل بصمتٍ وقوة ودقة متناهية إذ علمنا أن نقي العظام أي (مخ العظم) ينتج هذا المزيج لصالح 2,5 مليون كرية، يضخّها بانتظام شديد، ودون توقف. فتبارك الله أحسن الخالقين.
وحتى نتمكن من تقدير حجم العمل المطلوب للإنتاج، علينا أن ندرك كيف يُصنع خضابُ الكرية. ذلك أن الخضاب وحده يحتاج إلى عملية هندسية جبّارة وتركيبٍ دقيقٍ مبدعٍ. فالخضاب مكوّن من مئات الأحماض الأمينية وعددها 574 حمضا وعلى الأحماض هذه أن لا يشذ منها حمض عن حمض، ولا يبدّل مكانه من موضع لآخر، بل يحتفظ بقواعده وأحرفه، لا تتغيّر ولا تتبدّل. وعندما تندمج هذه الأحماض تتكوّن أربع سلاسل، كل سلسلتين منهما تتماثل في البناء. يرمز إلى أحدهما بسلسلة (أ) A والأخرى بسلسلة (ب) B. وعندما تتلاقى السلاسل الأربعة ينشأ الخضاب العادي للكرية لكنها لا تنشأ بعد!!
فهناك في أعماق نقي العظام تقوم تفاعلات أخرى، تجري بين مكوّنات ضرورية وأساسية لاستكمال تكوين الخلية فإذا ما تم التفاعل بين (الكولت والسباتور) والفيتامين B12 والنحاس والحديد والفيتامين B6 وحمض الفوليك تغدو الكرية جاهزة للعمل، في رحلة تستمر 120 يوماً ليلها كنهارها، دون كلل أو ملل.
وبعد هذه الرحلة الشاقة عليها أن تستسلم للأجل المحتوم: الموت. فقد أدّت دورها كاملاً وآن لها أن ترتاح لكنه لا بدّ من استمرار العدد المناسب والمطلوب وهذا لا يكون عشوائيا بل أوضاع الجسم العامة ووفق أحواله، وما يحتاجه منها. وهذا لا بد من إجراء فاعل ليكون بواسطة رقابة فاعلة متخصصة بالدور المطلوب وهذا كله يضمنه جهاز دقيق أوجده الخلّاق العليم، وله أدوار فاعلة وحاسمة خاصة منها استقصاء حالة الدم ومعرفة ما يطرأ عليه من زيادة أو نقص في عدد الكريات الحمراء. فإذا أدرك النقص أمر نقي العظام بإفراز المزيد، وإن كانت الزيادة نبَّه إلى وجوب خفض الإنتاج فوراً. ويتم هذا كله بانتظام ودقّة شديدين، مما يجعل هذا النظام جهازاً عجيباً دقيقاً في تصرّفاته، والكبير في مهامه، والصغير في حجمه يغذيه دوماً هرمون الاثروبويتين، يتواجد في مكان أمين في أعماق الكلية الرائعة!!!
واللافت في جميع الخلايا في الجسد أنها لا تقوم بنشاطها إلا انطلاقاً من مركزها الأساس، وهو نواتها وتلك قاعدة أساسية لا يشذ عنها إلا الكرية الحمراء. وهذه لا تقوم بمهامها إلا أن تفقد نواتها، أي إن فقد النواة عندها مؤشرٌ على عملها.. بينما الكرية البيضاء، خلاف الحمراء، تبدأ عملها بتعدد نَوَيَاتها فسبحان الخلّاق العظيم.
عمل الخلية الحمراء
تقوم الخلية الحمراء في الجسم بـ 1500 دورة يومياً وتنقل 600 ليتر من الأوكسجين. وتَعْبُر الخلية خلال حياتها المديدة (120 يوما) ألف ومئة وخمسين كلم أي حوالى 9,833 كلم أو ما يقارب 9830 م في اليوم الواحد!!... ألا يحق لها بعد هذه المسافة الطويلة والعبور الكبير والجهد العظيم المبارك، أن تخْلُد إلى الراحة الأبدية، وتُخْلِي دورها لسواها، لتقوم الجديدة بالرسالة الرائعة إلى مختلف أنحاء الجسم، فبها تستمر الحياة. تلك الحياة التي لا تستمر في الجسم دون تلك الخلية الحمراء الرائدة. فاستحقت بجدارة لقب (حاملة غاز الحياة). وليس نقلُ الأوكسجين دورها فحسب، بل هي بعد تفريغ الأوكسجين تأخذ، من مختلف الخلايا حولها مخلفات التفاعل، وهو غاز الفحم، تنقله، بكل أمانة، إلى داخل البدن. وبذلك تحفظ الخلية التفاعلَ الحمضي القلوي، وما زاد منه يُطرد إلى خارج الجسم، فيغذي النبات. فسبحان الخلاّق العليم الذي أحسن كل شيء خلقه!!
بعد هذه الرحلة الطويلة والمتكررة، يأتي الأجل المحتوم فتذهب الكرية الحمراء طائعة مختارة إلى الطحال، مقبرتها المثالية. حيث يقوم هذا العضو الكريم بإجراءات الدفن الجيد، فينقُض بناءها المحكم، ويُحلل الكرية الواحدة إلى عناصرها الأساسية محتفظاً بالحديد منها والأحماض الأمينية ليستفيد منهما الجسم في تفاعلاته المختلفة، القائمة منها والمستجدّة.
أما المخلفاتُ النهائية الناتجة عن تدمير الكرية الميتة، فتنتقل إلى الكبد وفيه يتم في امتصاص الدسم من الأحماض وإذابة الشحم...!! وذلك بعد أن يصله، من أجهزة الحماية في الجسم، عبر الطرق الصفراوية، والتي تصل إلى الأمعاء، فيساعدها هناك في إذابة الدسم منها أيضا، وفي الوقت نفسه يتحوّل قسمٌ منه إلى الغائط ليخرج معه، بعد أن يصبغه بلونه، بينما يذهب قسم آخر عبر الأمعاء إلى الكلية، فيعطي البول لونه الأصفر المعروف، ثم يتخلص منهما ويرتاح من عبئهما. فتبارك الله أحسن الخالقين الذي له في كل شيء آية تدلُّ على أنه الواحد وصدق الله العليم {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات – 21).