خالد حمود المؤمن المرابطُ، والقاضي النزيهُ، والمحسنُ الصامت بقلم د. محمد علي ضناوي

Written by  font size decrease font size decrease font size increase font size increase font size Print
19 كانون2/يناير 2019

بسم الله الرحمن الرحيم

خالد حمود

المؤمن المرابطُ، والقاضي النزيهُ، والمحسنُ الصامت 

بقلم د. محمد علي ضناوي([1])

لا أحسبكَ أيها الأخ الكريم، إن شاء الله، إلا قاضٍ في الجنة، والقضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار كما قال r.

ولا أحسبكَ أيها المحسن السخي إلا من بين المقبولين عند رب كريم عليم.

 

ولا أحسبكَ أيها المناضل من اجل شعبه المظلوم المكبوح لإخراجه من ظلم الحكام إلى عدلِ الرحمن لا أحسبه إلا واحداً من المجاهدين الرواد في وقت عزَّ فيه الجهاد، ونَدَرَ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والشرور والآثام، والآخذ بأيدي أمته إلى العز  والعلاء.

ذلك هو الأخ والصديق خالد حمود رحمه الله رحمةً ترفعُ درجاتِه عند ربٍ غفور رحيم في جنات عرضها السموات والأرضين.

*       *       *

كان هذا القاضي، يوم عرفته عام 1970، شاباً يُعدُّ نفسه، كما أعدَّها، بتطويعها في ساحة القول الحسن والعمل الصادق، انهاضاً لإخوانه، عموم اللبنانيين، وعلى الأخص جماعة المسلمين وبالأخص الأخص في بيروت ولبنان...

تعرَّفتُ إليه عضواً في المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى إلى جانب سماحة مفتي الجمهورية الشهيد الشيخ حسن خالد والشهيد الشيخ د. صبحي الصالح وعميد كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية وإخوانه الكرام، أعضاء المجلس يومئذ رحمهم الله جميعاً ورحمنا.

ثم تعرَّفتُ عليه في أروقة المحاكم قاضياً بالعدل إنْ شاء الله ثم مدَّعِياً عاماً في المحكمة العسكرية في بيروت ثم ... ثم ..

كان، رحمه الله، في شبابه ومسؤولياته القضائية مُتَّقِدَ الحماس لرفع ظلمٍ عن مظلوم ولإيصال صاحب الحق إلى حقه المهدور.

وهكذا تأصَّلتْ فيه هاتان الصفتان لتتحولا إلى سجية في خُلُقِه وشخصيته وممارساته، خاصةً بعد أن تقاعد عن القضاء وبات قادراً على التحرك في كل اتجاه.

*       *       *

كمْ سُرِرْتُ يومَ التقيتُه في طرابلس في زيارة قام بها مع صديقنا العميد المتقاعد فؤاد حسين آغا عضو الهيئة العليا لبيت الزكاة والخيرات، لتتأكد عندي أصالة شخصيته وعمق إدراكه وفهمه السليم لدينه وشجون وطنه ورغبته الصادقة.

إنّك، عندما تجدُ إنساناً ترقَّى في سلسلة القضاء إلى أعلى الدرجات والرُّتَب يأتي إلى طرابلس، لا ليتكسب، ولا ليجمع الأنصار والمؤيدين، ولا ليعطي دروساً مما تعلمه في القضاء وعلَّمَهُ للكثير، يأتيها ليلتقي أحباباً له فيها، فيزورهم ويتفقد أحوالهم، ثم لا يسألهم إلا عن فقراء ومساكين وعجزة وأيتام ومرضى كيف حالهم في مثل هذه الأيام الصعبة؟ وكيف حال المدينة المجاهدة الفيحاء المنكوبة بقادة تخلوا عنها وبمسؤولين عنها تركوها، لا تهمهم من زعامتها إلا إجازة مرور إلى أمجاد حكم مهترئ فإن وصلوا نسوا أنّهم من قلب هذه المدينة، فأخلفوا ميثاق العمل القاضي بنهضتها وجعلها قبلة الأخلاق والاقتصاد المتين والمشاريع النافعة، فلا تشكو ظلامةً ولا تتسكعُ في حضيضِ المستنقعات العفنة مهيض جناحاها، وتتكسر.. أو كما قال يوماً الرئيس فؤاد شهاب عندما سألوه عنها وهي مدينة الصلابة والشدة والناس الأقوياء والأوفياء، وهي قلعة متينة عبر الزمن الطويل!!! فأجابهم الرئيس الكبير: "طرابلسَ اليومَ قلعةٌ لكنها من ورق"!!!.

*      *      *

لا أعجبُ من فارسٍ كالفقيد الكبير أنْ يردفَ في محادثتي ليقول: (أحياءٌ في بيروت المحروسة باتتْ كطرابلس المنكوبة وصيدا المحروسة تجهدان للوصول إلى ادنى حقوقهما في الحياة الكريمة والتي أرادها الله للإنسان وكذلك سائر المدن والبلدات والقرى والأحياء إلا من تنزلت عليه (مصلحة الرئيس)!!.

أيقنتُ أنِّي أمامَ رجلٍ ما زال شاباً مُتَّقِدَ الحماسة، شعلتُهُ لا تنطفئ، وتأكدَتْ عندي مصداقيةُ ذلك عندما أردف يقول: إنَّ علينا جميعاً العمل لكشف الوقائع وصولاً إلى الفقرة الحُكْمِيَة من القرار (القضائي) الذي يعلنه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].

، وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَالتوبة: ١٠٥، وأردف: (لا قيمة لقرار لا ينفذ)  ولذلك علينا أن نسعى لتطبيق ما نؤمن به  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ الصف: ٢

وتابع: إن نهضة بلدنا لا يكون بالتسكع هنا وهناك وإنما بالعمل الدؤوب المستمر، فَيَدُ الله مع الجماعة.

كنتُ أُصغي إليه وكأني أمامَ "فارس عالم" خرج لتوه من سجن الواقع، يحمل كل شيء لهدم ما يرى من أسباب الفشل والتخلف، ويسعى لهدم الظلم ونقض الباطل لخير الناس، كل الناس .

ثم التفتَ إلينا قائلاً: (أهنئكم بالعمل الصادق تحت مظلة (الإنقاذ) و(بيت الزكاة والخيرات) مؤكداً لنا أنَّ هذا هو السبيلُ السليمُ للخروج من أزماتنا. وعلينا كلبنانيين، أنْ نتعاونَ ونتضامنَ في سبيل أبنائنا وأجيالنا. وعندما يترافقُ العمل الخيري مع العمل الوطني من أجل الخروج من أوضاعنا المرَّة نكون بذلك قد خَطَوْنا بعيداً وبثبات لإيصال بلادِنا إلى أمجادِها السليبة.

*       *       *

بعد هذا الحوار اللطيف والعميق سلَّم، رحمه الله، شيكاً لأخيه الحبيب العميد فؤاد حسين آغا الذي صَحِبَه من بيروت إلى طرابلس قائلاً له: هذا المخصَّصُ سيكونُ شهرياً إلى أُسَرِ الفقراء والأيتام والمعاقين والمرضى وطلبة العلم والساعين إلى الخير والفلاح...  رافقناه بعد ذلك إلى مؤسسات البيت ومراكز الأيتام والأسر المتعففة والأنشطة الخيرية وما أكثرها. ثم زار مستشفى الحنان التي تطورتْ من مركزٍ صحي فغدتْ بإذن الله من أرقى مستشفيات طرابلس والشمال، ثم إلى مجمَّع الأبرار وهو من أهم مؤسسات البيت، ويضم المجمَّع مدارسَ ومراكزَ لإيواء الأيتام، والتربية، ومسجداً، وقاعةَ محاضرات، ومركزاً رياضياً وصحياً ضمن المفهوم الشامل للرياضة البدنية والتربية الصحية وضمن مفهوم الرياضة العامة الحديثة... عندئذ التفتَ القاضي خالد قائلاً: (إنَّ خير ما فعلتم هو التربية القرآنية ونهجها الدقيق، مخصصاً مبلغاً دورياً آخر لتعليم الأمهات دورَهُنَّ الرائد في ظلال الإسلام الرائع.

تحركتْ مشاعرُ نفسي بدَفْقِ مشاعرَ رجلٍ كبير فأصاب مواقع الاستحسان عندي عندما طلب من العميد آغا وبعضَ المرشدين في البيت أن يزور بيوتَ بعض العوائل المحتاجة والفقيرة خاصة في باب التبانة، وعندما زار نماذج منها وضع وجهه بين يديه متوجهاً إلى الله بالقول: (اللهم وفقني لإغناء هؤلاء عن أي طلب إلا منك يا رحمن يا رحيم).

كان، رحمه الله، يحبُّ البَذْلَ والعطاء دونَ إعلان، قال بشكل حازم: (لا أريد أن يُذكرَ اسمي للناس أريدُ الأجْرَ من الله سبحانه فحسب).

ثم طلب قائلاً: ــ وكنا على أعتاب رمضان المبارك ـــ (أريدُ في رمضان وفي كل رمضان أنْ يتمَّ التوزيعُ للعائلات المكفولة مني بحصص رمضانية لا تقل عن مئة دولار للعائلة الواحدة مواداً غذائية كاملة).

كما أريدُ أنْ أخصِّصَ لهم أموالاً تُدفع لهم في كل شهر، وأريدُ أنْ يتداوَوْا في "الحنان" وأقدِّمُ تغطيةَ الفارق بعد كلفة وزارة الصحة، وأريدُ أنْ يتمَّ تدريسُ الأمهات وأبنائهم قواعدَ الإسلام وآدابه، وأريدُ أنْ يتحولَّ المحتاجُ إلى مقتدرٍ يبني حياتَه وبلدَه من جديد.

*       *       *

لم أكنْ أعرفُ القاضي حمود، رحمه الله، بهذا العمق المنهجي الرائد، ولم أعرفه مُصْلِحاً اجتماعياً لديه "الفقرات الحُكْمِيَّة" لقرارات قضائية، حاسمة في نهضة أمة، لكنني عندما قرر، رحمه الله، أنْ يخوضَ غمرات انتخابات بيروت النيابية في عام 2018، على رأس قائمة، أدركتُ أنَّ الرجلَ يتمتعُ بفكرٍ رائدٍ هادف. فهو يطمعُ ويطمحُ إلى إصلاحِ البرلمان والحكومة والقضاء والمجتمع، ويريدُ تحقيقَ منهج متكامل، ويسعى بكليته لتنفيذ ما يرى في السياسة وفي مقاليد الحكم والمجتمع والقضاء، والتعليم، والاقتصاد والإنماء، على أنْ لا ينسيه ذلك مدَّ يدِ العون إلى الفقير والمحروم. وقال في يوم هاتفته: ـــ بعد ترشحه لانتخابات بيروت ـــ (عليَّ أنْ أختمَ حياتي بممارسة كل عمل أراده مفيداً أتقرَّبُ به إلى الله فأخاف أنْ يسألني لماذا تكاسلت عن عمل، كان بإمكانك أن تقوم به وتبذل جهودك فيه؟، ثم لا عليك أن تصل أو لا تصل إلى أهدافك، إنما عليك أن تستخدم الطاقات التي وهبتك إياها في خدمة دينك وبلدك وأمنك!!!.

ذكرَ لي العميدُ فؤاد حسين آغا لما ذَكَرَ له الفقيدُ إنْ كان لا يريدُ أنْ يسدِّدَ قيمةَ المساعدات التي ألزَمَ نفسَهُ بها لأهل طرابلس المحتاجين بسبب تكاليف الحملة الانتخابية في بيروت، إلتفتَ إليه يومئذٍ غاضباً وهو يقول: (لا ... لا... لا للانتخابات وتباً للنيابة إنْ كانا سيمنعاني من فعل الخيرات لأولئك المحتاجين الفقراء).

*      *      *

أيامٌ ثلاثة أمضاها رحمه الله في المستشفى لتنتقلَ روحُه الطاهرة إلى بارئها تشكو إليه ظُلْمَ الظالمين وتآمر المجرمين ونزق الطائشين، وحاجات المحرومين، وهناك يقدم بين يدي ربه، والله أعلم وأحكم، سِجِلَّ حياته في مختلف الميادين.

لم ينسَ خالد حمود فقيدنا الكبير، وهو بين يديْ ربه، أنْ يطلبَ منه سبحانه وتعالى العونَ لأمةٍ أعداؤها تكالبوا عليها، يشاركُهُم في الظلم والتكالبِ بعضُ أتباعها : حكامٌ ومحكومون!!!.

نقولُ لفقيدنا الكبير:

نَمْ قريرَ العين يا خالد "الحمود" فأنتَ من نَسْل عائلة كريمة عبر التاريخ الطويل جاءتْ إلى لبنان من المغرب ومن العراق إلى أرض الرباط في سوريا ولبنان وفلسطين ليرابطوا في بلاد الرباط ليحموها ويقاتلوا عنها ولن يبرحوها أبداً إلا إلى ربٍ كريم غفورٍ قدير، ثم سكنوا البلدَ فكانتْ عائلتُكَ الكريمة، وستبقى "محمودة" بإذن الله وحامدةً لله ولأمة العرب والإسلام ولنْ تتخلى عن دورها الجهادي الرائد الكبير.

والى اللقاء في جنات الخلود بإذن الله.



([1]) رئيس الإنقاذ الإسلامية اللبنانية، ناظر وقف بيت الزكاة والخيرات ــ لبنان.