تعتبر التنمية ظاهرة اجتماعية نشأت مع نشأة البشر المستقر. واتخذ مفهومها صورًا متعددة في سياق الحضارة المعاصرة. لذلك قد يختلف اللفظ العربي لمفهوم التنمية عما هو عليه في الدول الأوروبية. ذلك أن لفظة التنمية لها جذورها في اللسان العربي. وقد توسّعنا في شرح هذا المفهوم، بالاضافة إلى شرح الفرق بين التنمية والنمو.
ومن مفهوم النمو العربي جاءت الزكاة التي تعني الزيادة والنماء الممزوجة بالبركة والطهارة. وقد ظهر لدينا أن التنمية من المنظور الاسلامي هي ظاهرة شاملة وقائمة على أسس واضحة، إذ ليس من المنطقي البحث في الجانبين الاجتماعي والاقتصادي، وترك الجوانب الأخرى كتنمية الادارة والتعليم والصحة والعمل والسياسة وما شابه ذلك.
مفهوم التنمية
أما على الصعيد العالمي، وبالتحديد في القرنين العشرين والواحد والعشرين، فقد تحول مفهوم التنمية ليصير من أهم المفاهيم التي على أساسها تتأسس نظم اقتصادية وسياسية متماسكة فيها يسمى بـ «عملية التنمية»، وخصوصًا بعد الاستقلال في آسيا وأفريقيا بصورة جلية. ولاحقًا تطور مفهوم التنمية ليرتبط بالكثير من حقول المعرفة، فأصبح هناك التنمية الثقافية والتنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
وعلى صعيد التنمية الاجتماعية، واجهت البلدان العربية العديد من الاشكاليات الاقتصادية والاجتماعية التي أسهمت، بالاضافة إلى عوامل أخرى، في تعميق ظاهرة الفقر التي التصقت بالعالم النامي، وبالتحديد العالم العربي.
وقد تفاوتت نسبة الفقر في البلدان العربية بين بلدان غنية ومتوسطة وفقيرة، وهذا ما أظهرته الدراسات والتقارير التي بدأت تصدرها منظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي كل عام.
وبدأت هذه التقارير والدراسات تصل إلى دواوين أهل السلطة والحكام. ومن هذا الباب، ظهر أن معالجة هذا الوضع لا بد أن يقع على عاتق أهل الحكم والمسؤولين في كل بلد. ذلك أن عليهم تأمين ظروف عمل، وتحسين نوعية المعيشة والتخفيف من الضرائب والرسوم على الطبقات الفقيرة، ورفع مستويات المعيشة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الفقر سبب لمدّ يد العون من قبل المؤسسات الاجتماعية والمدنية والأهلية عند لمس العجز عن تأمين حاجات الناس الأساسية، وخصوصًا عند ضعف السلطة السياسية، وعدم قدرتها على تأمين الحد الأدنى لأفراد شعبها.
التشريعات الاسلامية
أما على الصعيد التشريعات الاسلامية، فإن من مهمات الدولة الاسلامية تأمين الأموال اللازمة للفقراء والمحتاجين، وهذا ما حصل في فترات تاريخية مختلفة، إذ أسهمت أموال الزكاة والصدقات والتقديمات المختلفة في تخفيف ظاهرة الفقر، وإن حصلت بعض الشوائب في عملية التطبيق بعد فترة حكم الخلفاء الراشدين، وتوسع نفوذ السلطة. وقد تطرّقت الدراسة إلى النظرية الاسلامية السياسية ومبادئها الثلاثة، مبدأ الحاكمية ومبدأ أخلاقية السياسية ومبدأ الحرية السياسية ونظام الحكم. ومن مؤسسات الحكم التي تحدث عنها الاسلام سلطة الشورى، فالشورى مبدأ أصيل في نظام الحكم لقوله تعالى: وأمرهم شورى بينهم (الشورى: 38)، وشاورهم في الأمر (آل عمران: 159).
وبحثت الدراسة في مواد الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948. كما أظهرت كيف توصل عمر بن عبد العزيز إلى أن يغني الناس بحيث لم يعد يجد فقيرًا واحدًا يستحق الزكاة، علمًا أن دولته امتدت حدودها من الصين شرقًا الى باريس غربًا، ومن حدود سيبريا شمالًا إلى المحيط الهندي جنوبًا. وقد أظهرت الدراسة السياسة المالية والاقتصادية التي اتبعها عمر بن عبد العزيز لسد حاجات الناس وإغنائهم.
كما تطرقت الدراسة إلى مفاهيم وخصائص التنمية الاسلامية التي تمثلت بالتطوير والتغيير، والاستمرارية، والشمولية، والوعي بمقصود الشارع من الاستخلاف، والرعاية الاجتماعية.
بينت الدراسة كذلك أهمية المجتمع المدني ونشأته ودوره إلى جانب الدولة وماهية المنظمات التي يتكون منها المجتمع المدني، ومتى بدأت بالظهور، وأثر العولمة على نشأته وتطوره، وظهور منظمات دولية جديدة تهتم بتطبيق سياسات من وجهة نظر المجتمع المدني الغربي والأمم المتحدة. ثم انتقلت الدراسة الى تحديد مفهوم المجتمع المدني ودوره في التنمية حسب مفهوم المنظور الاسلامي، وتطرقت الدراسة إلى أركان المجتمع المدني: الادارة الحرة، التنظيم، التسامح وقبول التعددية. بالاضافة إلى مهمات الدولة الاسلامية، كما تحدثت عن المبادئ التي يقوم عليها المجتمع المدني الاسلامي، وعلى أنماط من تنظيمات المجتمع المدني في الحضارة الاسلامية. وكذلك تحدثت الدراسة عن التكافل الاجتماعي ونطاقه مقدمة نموذج الأسرة كوحدة اجتماعية مهمة في البناء الحضاري للمجتمع.
المؤسسات الاجتماعية
أما بالنسبة إلى القسم المتعلق بمؤسسات وقف بيت الزكاة والخيرات – لبنان، فقد بيّنت الدراسة أن لبنان وطن تتعدد فيه الأديان والطوائف والمذاهب، وتتشابك فيه الافكار والمعتقدات. ذلك أن النظام اللبناني قد أقرّ لكل طائفة دينية حرية إدارة شؤونها الدنيوية خلال مراجعها الرسمية بما لا يتناقض مع النظام العام.
وأظهرت أن مرحلة الحرب اللبنانية (1975-1990) كانت من المراحل المهمة التي لعبت دوراً أساسيا في تشكيل الدور التنموي والانمائي للجمعيات الأهلية في لبنان، وساهمت في تطوير وتحديث خدمات هذه المؤسسات الاجتماعية وتنوعها وشموليتها.
ومن بين هذه المؤسسات والجمعيات وقف بيت الزكاة والخيرات - لبنان الذي كان له دور كبير أثناء فترة الحرب ولا تزال كإحدى منظمات المجتمع المدني التي يعوّل عليها خلال فترة عجز مؤسسات الدولة الرسمية عن القيام بواجباتها بسبب انهيار مثل هذه المؤسسات في تلك المرحلة. ولا تزال مؤسساته تقوم بأدوارها المختلفة في دعم أفراد المجتمع وعائلاتهم.
إلا أن مثل هذه المؤسسات لم تأخذ دورها الطليعي دفعة واحدة، بل مرّت بمراحل متتالية وصلت بها إلى ما هي عليه الآن. وقد فصّلنا القول في ذلك على امتداد الدراسة الميدانية.
إلا أن ما يهم في هذا المجال هو إعلان البيت نفسه وقفًا اسلاميًّا مستقلًا بموجب حجة وقفية مسجلة أصولًا في المحكمة الشرعية، وتشكل النظام الأساسي له. والأمر هذا، يُعدّ تطورًا مهمًا ورائدًا لمفهوم الوقف الخيري وقدراته في التنظيم والمتابعة، وسد حاجات الناس وإحياء دور التنمية عبر الزكاة والخيرات والتبرعات
وتبين من خلال الدراسة أن البيت في حالة من التطور الدائم وتزايد الأعباء والانتقال من مرحلة إلى مرحلة أفضل، مواكبًا تطور المفاهيم التنموية وحاجات المجتمع، داعمًا للتعليم وطلابه، والجامعيين منهم على الأخص.. فجاءت الانجازات لتؤكد هذا التطور في عمل المؤسسة.
وأخيرًا بيّنت الدراسة الأنشطة الاجتماعية والمشاريع التي تقدّمها مؤسسات وقف بيت الزكاة والخيرات وانعكاساتها التنموية في مختلف القطاعات. وقد جاءت هذه لتؤكد على أهمية بيت الزكاة والخيرات في لبنان، وعلى أهمية ما قام به من انجازات، وما قدمه من خدمات لأناس ما كان لهم أن يحصلوا على المساعدات التي يستحقونها دون تدخل بيت الزكاة والخيرات في لبنان، حتى غدا البيت معلمًا اجتماعيًا وثقافيًا وصحيًا. وهو أحد أبرز المرجعيات الاسلامية والوطنية في لبنان.
* أستاذ مساعد في علم اجتماع التنمية في الجامعة اللبنانية
المصدر : موقع جريدة اللواء
http://aliwaa.com.lb/%D8%A3%D9%82%D8%B3%D8%A7%D9%85-%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9%89/%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%AF%D9%86%D9%8A%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%AF%D9%88%D8%B1%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%85%D9%88%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%83%D8%A7%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/